في يناير 2025، أعلنت البعثة الأثرية الفرنسية-السويسرية المشتركة عن اكتشاف مقبرة أثرية مميزة في منطقة سقارة، جنوب القاهرة. تعود هذه المقبرة إلى الطبيب الملكي “تيتي نب فو”، الذي خدم في بلاط الملك بيبي الثاني خلال عهد الأسرة السادسة، أي قبل أكثر من 4000 عام. يُعد هذا الاكتشاف إضافة مهمة لفهمنا لتاريخ الطب والممارسات الدينية في مصر القديمة.
تفاصيل المقبرة:
تتكون المقبرة المكتشفة من مصطبة مبنية من الطوب اللبن، وهو نمط معماري شائع في مقابر الدولة القديمة. تتميز هذه المصطبة بباب وهمي مزخرف بنقوش ورسومات دقيقة تصور مشاهد دينية وحياتية تعكس مكانة صاحبها. يعلو الباب سقف مطلي باللون الأحمر يحاكي أحجار الجرانيت المستخدمة في المعابد الملكية. ويُعتقد أن الباب الوهمي كان يمثل بوابة رمزية بين عالم الأحياء وعالم الموتى، مما يسمح للروح بالمرور بين العوالم.
داخل المصطبة، تم العثور على تابوت حجري يحتوي على نقوش هيروغليفية تحمل اسم “تيتي نب فو” وألقابه. بجانب التابوت، اكتشفت أدوات طبية قديمة وأواني كانت تُستخدم في تحضير العقاقير الطبية، مما يدل على الدور الحيوي الذي كان يلعبه هذا الطبيب في البلاط الملكي. وقد شملت هذه الأدوات ملاقط جراحية، مشرطاً صغيراً، وأوعية فخارية يُعتقد أنها كانت تُستخدم لحفظ الأعشاب الطبية.
ألقاب ومناصب “تيتي نب فو”:
حمل “تيتي نب فو” عدة ألقاب تعكس مكانته الرفيعة في البلاط الملكي، من بينها:
- كبير أطباء القصر الملكي، مما يعني أنه كان مسؤولاً عن صحة أفراد العائلة المالكة.
- كاهن الإلهة سركت، مما يشير إلى تخصصه في علاج لدغات العقارب والثعابين، حيث كانت سركت تُعتبر حامية من السموم.
- عظيم أطباء الأسنان، مما يدل على أنه كان يمتلك معرفة واسعة بطب الأسنان، وهو أمر نادر في تلك الحقبة.
- مدير النباتات الطبية، مما يدل على معرفته الواسعة بالنباتات العلاجية، ودوره في تطوير وصفات طبية تعتمد على الأعشاب.
تشير هذه الألقاب إلى الدور البارز الذي كان يلعبه “تيتي نب فو” في مجالات الطب والكهنوت، وتُظهر مدى التقدم الطبي في مصر القديمة. ومن اللافت للنظر أن الجمع بين الطب والكهنوت كان شائعاً في تلك الفترة، حيث كان يُنظر إلى الأطباء كوسطاء بين الإنسان والآلهة.
أهمية الاكتشاف:
يُسلط هذا الاكتشاف الضوء على عدة جوانب مهمة:
- التقدم الطبي في مصر القديمة: تُظهر الأدوات الطبية والألقاب التي شغلها “تيتي نب فو” مدى التقدم الذي وصل إليه المصريون القدماء في مجالات الطب، بما في ذلك طب الأسنان واستخدام النباتات الطبية. ويُعتقد أن المصريين القدماء كانوا يمتلكون معرفة متقدمة في مجالات مثل الجراحة، وتقنيات التجبير، وعلاج أمراض العيون.
- الممارسات الدينية: يعكس دوره ككاهن للإلهة سركت العلاقة الوثيقة بين الطب والدين في مصر القديمة، حيث كانت بعض الأمراض تُعزى إلى أسباب دينية أو روحية. وكان يُعتقد أن الكهنة الأطباء يمتلكون القدرة على شفاء الأمراض من خلال الجمع بين العلاجات الطبية والطقوس الدينية.
- الهندسة المعمارية والفنون: تُظهر النقوش والرسومات في المقبرة مستوى عالٍ من الدقة الفنية والمعرفة الهندسية، مما يعكس تطور الفنون والعمارة في ذلك الوقت. وتشمل الرسومات مشاهد للحياة اليومية، مثل صيد الأسماك وحصاد المحاصيل، بالإضافة إلى مشاهد طقسية تصور تقديم القرابين للآلهة.
ردود الفعل والتصريحات:
أعرب الدكتور محمد إسماعيل خالد، الأمين العام للمجلس الأعلى للآثار، عن سعادته بهذا الاكتشاف، مشيرًا إلى أنه يضيف بُعدًا جديدًا لفهمنا للحياة اليومية في عصر الدولة القديمة، خاصة في مجالات الطب والدين. وأوضح أن مثل هذه الاكتشافات تعزز من أهمية مصر كمركز حضاري عالمي.
من جانبه، أكد الدكتور فيليب كولمبير، رئيس البعثة الأثرية، أن المقبرة تعرضت للنهب في عصور سابقة، إلا أن جدرانها بقيت بحالة جيدة، محتفظة بالنقوش والرسومات الزاهية، مما يوفر معلومات قيمة عن تلك الفترة. كما أشار إلى أن الفريق يخطط لمزيد من الحفريات في المنطقة لاكتشاف مزيد من الأسرار التاريخية.
منطقة سقارة وأهميتها الأثرية:
تُعتبر منطقة سقارة من أهم المواقع الأثرية في مصر، حيث كانت بمثابة مقبرة لمدينة منف، العاصمة القديمة. تضم سقارة العديد من المصاطب والأهرامات، أبرزها هرم زوسر المدرج، الذي يُعد أقدم هرم في مصر. شهدت المنطقة العديد من الاكتشافات الأثرية المهمة التي ساهمت في فهم تاريخ مصر القديمة.
وتحتوي سقارة أيضاً على مجموعة من المقابر التي تعود لموظفين كبار وكهنة، مما يعكس التنوع الاجتماعي والاقتصادي في مصر القديمة. وتكشف هذه المقابر عن تفاصيل دقيقة للحياة اليومية، مثل الملابس، أدوات الزينة، والأنشطة الحرفية.
البعثة الأثرية الفرنسية-السويسرية:
بدأت هذه البعثة أعمالها في منطقة مقابر موظفي الدولة خلف المجموعة الجنائزية للملك بيبي الأول منذ عام 2022. في عام 2022، نجحت البعثة في الكشف عن مصطبة الوزير “وني” من عصر الدولة القديمة، مما يعكس أهمية المنطقة وثراءها بالاكتشافات الأثرية.
تتألف البعثة من فريق متعدد التخصصات يضم علماء آثار، متخصصين في اللغة الهيروغليفية، وخبراء في حفظ وترميم الآثار. ويهدف هذا التعاون الدولي إلى تعزيز فهمنا للعصور القديمة من خلال تبادل المعرفة والخبرات.
التحديات المستقبلية:
بالرغم من أهمية هذا الاكتشاف، إلا أن هناك تحديات تواجه فرق التنقيب، من بينها:
- الحفاظ على النقوش والألوان: تتطلب النقوش والرسومات المكتشفة عناية خاصة للحفاظ عليها من التدهور بسبب التعرض لعوامل البيئة.
- مواصلة التنقيب: تحتاج المنطقة إلى مزيد من البحث والتنقيب للكشف عن مزيد من المقابر والآثار المحتملة.
- التوعية والترويج: يجب زيادة الوعي بأهمية هذه الاكتشافات والترويج لها لجذب السياحة وتعزيز الاهتمام بالتراث المصري.
يُعد اكتشاف مقبرة “تيتي نب فو” إضافة قيمة إلى سجل الاكتشافات الأثرية في مصر، ويُسلط الضوء على التقدم الطبي والديني في عصر الدولة القديمة. كما يُبرز أهمية منطقة سقارة كموقع أثري غني بالمعلومات عن الحضارة المصرية القديمة، ويعزز من فهمنا لتطور العلوم والمعارف في العصور القديمة.
إن هذا الاكتشاف ليس مجرد نافذة على الماضي، بل هو تذكير بقيمة التراث الثقافي وأهمية الجهود الدولية في الحفاظ عليه ودراسته لصالح الأجيال القادمة.